فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{كُتِبَ} تمثيل لثبوت الأمر كأنه مكتوب، ويحتمل أن يكون بمعنى قضى، كقولك: كتب الله أنه في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله، وفي أنه عطف عليه وقيل: تأكيد {مَن تَوَلاَّهُ} أي تبعه أو اتخذ وليًّا، والضمير في عليه، وفي أنه في الموضعين، وفي تولاه للشيطان، وفي يضله، ويهديه، للمتولي له، ويحتمل أن تكون تلك الضمائر أولًا لمن يجادل.
{يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث} الآية: معناها إن شككتم في البعث الآخروي فزوال ذلك الشك أن تنظروا في ابتداء خلقتكم؛ فتعلموا أن الذي قدر على أن خلقكم أول مرة: قادر على أن يعيدكم ثاني مرة، وأن الذي قدر على إخراج النبات من الأرض بعد موتها: قادر على أن يخرجكم من قبوركم {خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ} إشارة إلى خلق آدم، وأسند ذلك إلى الناس لأنهم من ذريته وهو أصلهم {مِنْ عَلَقَةٍ} العلقة قطعة من دم جامدة {مِن مُّضْغَةٍ} أي قطعة من لحم {مُّخَلَّقَةٍ} المخلقة التامة الخلقة، وغير المخلقة الغير التامة: كالسقط، وقيل: المخلقة المسوّاة السالمة من النقصان {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ} اللام تتعلق بمحذوف تقديره: ذكرنا ذلك {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ} قدرتنا على البعث {وَنُقِرُّ} فعل مستأنف {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} يعني وقت وضع الحمل وهو مختلف وأقله ستة أشهر إلى ما فوق ذلك {نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} أفرده لأنه أراد الجنس، أو أراد نخرج كل واحد منكم طفلًا {لتبلغوا أَشُدَّكُمْ} هو كمال القوّة والعقل والتمييز. وقد اختلف فيه من ثماني عشرة سنة إلى خمس وأربعين {أَرْذَلِ العمر} ذكر في [النحل: 70] {هَامِدَةً} يعني لا نبات فيها {اهتزت} تحركت بالنبات وتخلخلت أجزاؤها لما دخلها الماء {وَرَبَتْ} انتفخت {زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي صنف عجيب.
{ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق} أي ذلك المذكور من أمر الإنسان، والنبات حاصل، بأن الله هو الحق، هكذا قدره الزمخشري، والباء على هذا سببية، وبهذا المعنى أيضًا فسّره ابن عطية، ويلزم على هذا أن لا يكون قوله: {وَأَنَّ الساعة آتِيَةٌ}: معطوفًا على ذلك، لأنه ليس بسبب لما ذكر، فقال ابن عطية قوله: أن الساعة ليس بسبب لما ذكر ولَكِن المعنى أن الأمر مرتبط بعضه ببعض، أو على تقدير: والأمر أن الساعة وهذان الجوابان اللذان ذكر ابن عطية ضيعفان: أما قوله إن الأمر مرتبط بعضه ببعض، فالارتباط هنا إنما يكون بالعطف والعطف لا يصح، وأما قوله على تقدير الأمر: أن الساعة، فذلك استئناف وقطع الكلام الأول، ولا شك أن المقصود من الكلام الأول: هو إثبات الساعة فكيف يجعل ذكرها مقطوعًا مما قبله، والذي يظهر لي أن الباء ليست بسببية، وإنما يقدر لها فعل تتعلق به ويقتضيه المعنى؛ وذلك أن يكون التقدير؛ ذلك الذي تقدم من خلقة الإنسان والنبات شاهد بأن الله هو الحق، وأنه يحيي الموتى، وبأن الساعة أتية، فيصح عطف: {وَأَنَّ الساعة} على ما قبله بهذا التقدير، وتكون هذه الأشياء المذكورة بعد قوله: {ذلك} مما استدل عليها بخلقة الإنسان والنبات.
{ومِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ} نزلت فيمن نزلت فيه الأولى وقيل الأخنس بن شريق.
{ثَانِيَ عِطْفِهِ} كناية عن المتكبر المعرض {لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ} إن كانت في النضر بن الحارث: فالخزي أسره ثم قلته، وكذلك قتل أبي جهل.
{ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} أي يقال له: ذلك بما فعلت ويعدل الله، لأنه لا يظلم العباد.
{مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ} نزلت في قوم من الإعراب، كان أحدهم إذا أسلم فاتفق له ما يعجبه في ماله وولده قال: هذا دين حسن، وإن اتفق له خلاف ذلك تشاءم به وارتدّ عن الإسلام، فالحرف هنا كناية عن المقصد، وأصله من الانحراف عن الشيء، أو من الحرف بمعنى الطرف أي أنه في طرف من الدين لا في وسطه {خَسِرَ الدنيا والآخرة} خسارة الدنيا بما جرى عليه فيها، وخسارة الآخرين بارتداده وسوء اعتقاده {مَا لاَ يَضُرُّهُ} يعني الأصنام، {يَدْعُو} بمعنى يعبد في الموضعين.
{يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} فيها إشكالان: الأول في المعنى وهو كونه وصف الأصنام بأنها لا تضر ولا تنفع، ثم وصفها بأن ضرّها أقر من نفعها، فنفى الضرّ ثم أثبته، فالجواب: أن الضر المنفي أولًا يراد به ما يكون من فعلها وهي لا تفعل شيئًا، والضر الثاني: يراد به ما يكون بسببها من العذاب وغيره، والاشكال الثاني: دخول اللام على {مِن} وهي في الظاهرة مفعول، واللام لا تدخل على المفعول، وأجاب الناس عن ذلك بثلاثة أوجه: أحدها أن اللام مقدّمة على موضعها، كأن الأصل أن يقال: يدعو من لضره أقر من نفعه، فموضعها الدخول على المبتدأ، والثاني: أن {يَدْعُو} هنا كرر تأكيدًا ليدعو الأول وتم الكلام عنده، ثم ابتدأ قوله: {لَمَنْ ضَرُّهُ}، فمن مبتدأ وخبره {لَبِئْسَ المولى}، وثالثها: أن معنى {يَدْعُو}: يقول يوم القيامة هذا كلام إذا رأى مضرة الأصنام، فدخلت اللام على مبتدأ في أول الكلام {المولى} هنا بمعنى الولي {العشير} الصاحب فهو من العشيرة.
{إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية: لما ذكر أن الأصنام لا تنفع من عبدها، قابل ذلك بأن الله ينفع من عبده بأعظم النفع، وهو دخول الجنة.
{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السماء ثُمَّ لْيَقْطَعْ} السبب هنا الحبل، والسماء هنا سقف البيت وشبهه من الأشياء، التي تعلق منها الحبال، والقطع هنا يراد به: الاختناق بالحبل، يقال: قطع الرجل إذا اختنق، ويحتمل أن يراد به قطع الرجل من الأرض بعد ربط الحبل في العنق، وربطه في السقف، والمراد بالاختناق هنا ما يفعله من اشتد غيظه وحسرته، أو طمع فيما لا يصل إليه، كقوله للحسود: مت كمدًا، أو اختنق؛ فإنك لا تقدر على غير ذلك، وفي معنى الآية قولان: الأول أن الضمير في ينصره لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى على هذا: من كان من الكفار يظنّ أن لن ينصر الله محمدًا فليختنق بحبل، فإن الله ناصره ولابد على غيظ الكفار، فموجب الاختناق هو الغيظ من نصرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والقول الثاني أن الضمير في {يَنصُرَهُ} عائد إلى {مَن}، والمعنى على هذا من ظنّ بسبب ضيق صدره وكثرة غمه أن لن ينصره الله: فيليختنق وليمت بغيظه، فإنه لا يقدر على غير ذلك، فموجب الاختناق على هذا القنوط والسخط من القضاء، وسوء الظنّ بالله حتى ييأس من نصره، ولذلك فسر بعضهم أن لن {يَنصُرَهُ الله} بمعنى أن لن يرزقه، وهذا القول أرجح من الأول لوجهين: أحدهما أن هذا القول مناسب لمن يعبد الله على حرف، لأنه إذا أصابته فتنة انقلب وقنط، حتى ظنّ أن الله لن ينصره، فيكون هذا الكلام متصلًا بما قبله: ويدل على ذلك قوله قبل هذه الآية: {إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج: 14]: أي الأمور بيد الله، فلا ينبغي لأحد أن يتسخط من قضاء الله، ولا ينقلب إذا أصابته فتنة، والوجه الثاني، أن الضمير في ينصره على هذا القول يعود على ما تقدّمه، وأما على القول الأول فلا يعود على مذكور قبله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر قبل ذلك بحيث يعود الضمير عليه، ولا يدل سياق الكلام عليه دلالة ظاهرة {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} الكيد هنا يراد به اختناقه، وسُميَ كيدًا لأنه وضعه موضع الكيد، إذ هو غاية حيلته، والمعنى إذا خنق نفسه فلينظر هل يذهب ذلك ما يغيظه من الأمر، أي ليس يذهبه.
{وكذلك أَنزَلْنَاهُ} الضمير للقرأن، أي مثل هذا أنزلنا القرآن كله {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ الله يَهْدِي مَن يُرِيدُ} قال ابن عطية: أن في موضع خبر الابتداء والتقدير الأمر أن الله، وهذا ضعيف. لأن فيه تكلف إضمار وقطع للكلام عن المعنى الذي قبله، وقال الزمخشري: التقدير: لأن الله يهدي من يريد أنزلناه كذلك آيات بينات، فجعل أن تعليلًا للإنزال، وهذا ضعيف؛ للفصل بينهما بالواو. والصحيح عندي: أن قوله: {وَأَنَّ الله} معطوف على آيات بيناتع، لأنه مقدر بالمصدر، فالتقدير أنزلناه آيات بينات وهدى لمن أراد الله أن يهديه.
{والصابئين} ذكر في [البقرة: 62] وكذلك الذين هادوا {والمجوس} هم الذين يعبدون النار، ويقولون: إن الخير من النور والشر من الظلمة {والذين أشركوا} هم الذين يعبدون الأصنام من العرب وغيرهم {إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} هذه الجملة هي خبر {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ} الآية، وكررت مع الخبر للتأكيد، وفصل الله بينهم بأن يبين لهم أن الإيمان هو الحق، وسائر الأديان باطلة، وبأن يدخل الذين آمنوا الجنة ويدخل غيرهم النار.
{يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض} دخل في هذا من في السماوات من الملائكة، ومن في الأرض من الملائكة، والجنّ ولم يدخل الناس في ذلك؛ لأنه ذكرهم في آخر الآية، إلا أن يكون ذكرهم في آخرها على وجه التجريد، وليس المراد بالسجود هنا السجود المعروف، لأنه لا يصح في حق الشمس والقمر وما ذكر بعدهما، وإنما المراد به الانقياد ثم إن الانقياد يكون على وجهين: أحدهما الانقياد لطاعة الله طوعًا، والآخر الانقياد لما يجري الله على المخلوقات في أفعاله وتدبيره شاؤوا أو أبوا {وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس} إن جعلنا السجود بمعنى الانقياد لطاعة الله، فيكون كثير من الناس معطوفًا على ما قبله من الأشياء التي تسجد ويكون قوله: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} مستأنفًا يراد به من لا ينقاد للطاعة، ويوقف على قوله: {وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس}، وهذا القول هو الصحيح؛ وإن جعلنا السجود بمعنى الانقياد لقضاء الله وتدبيره؛ فلا يصح تفضيل الناس على ذلك إلى من يسجد ومن لا يسجد لأن جميعهم يسجد بذلك المعنى، وقيل: إن قوله: {وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس} معطوف على ما قبله ثم عطف عليه وكثير {حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} فالجميع على هذا يسجد وهذا ضعيف لأن قوله: {حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} يقتضي ظاهرة أنه إنما حق عليه العذاب بتركه للسجود، وتأوله الزمخشري على هذا المعنى، بأن إعراب {وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس} فاعل بفعل مضمر تقديره يسجد سجود طاعة أو مرفوع بالابتداء وخبره محذوف تقديره مثاب وهذا تكلف بعيد. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

سورة الحج مكية إلا {ومن الناس من يعبد الله على حرف} الآيتين وإلا {هذان خصمان} الست آيات فمدنيات، وهي ثمان، وقيل: خمس أو ست أو سبع وسبعون آية.
{بسم الله} أي: الذي اقتضت عظمته خضوع كل شيء {الرحمن} الذي عمّ برحمته كل موجود {الرحيم} الذي خص بفضله من شاء من عباده. ولما ختمت السورة التي قبل هذه بالترهيب من الفزع الأكبر وطي السماء وإتيان ما يوعدون، وكان أعظم ذلك يوم الدين افتتحت هذه السورة بالأمر بالتقوى المنجية من هول ذلك اليوم بقوله تعالى: {يا أيها الناس} أي: الذين تقدّم أوّل تلك أنه اقترب لهم حسابهم إن أريد أنّ ذلك عام وإلا فهم وغيرهم {اتقوا} أي: احذروا عقاب {ربكم} أي: المحسن إليكم بأنواع الإحسان بأن تجعلوا بينكم وبين عقابه وقاية الطاعات، ولما أمرهم بالتقوى علل ذلك مرهبًا لهم بقوله تعالى: {إنّ زلزلة الساعة} أي: حركتها الشديدة للأشياء على الإسناد المجازي، فتكون الزلزلة مصدرًا مضافًا إلى فاعله، ويصح أن يكون إلى المفعول فيه على طريق الاتساع في الظرف وإجرائه مجرى المفعول به كقوله تعالى: {بل مكر الليل والنهار} [سبأ]، وهي الزلزلة المذكورة في قوله تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} [الزلزلة].
واختلف في وقتها، فعن الحسن أنها تكون يوم القيامة، وعن علقمة والشعبي عند طلوع الشمس من مغربها الذي هو أقرب للساعة {شيء عظيم} أي: أمر كبير وخطر جليل وحادث هائل لا تحتمل العقول وصفه وهذا للزلزلة نفسها، فكيف بجميع ما يحدث في ذلك اليوم الذي لابد لكم من الحشر فيه إلى الله تعالى ليجازيكم على ما كان منكم لا ينسى منه نقير ولا قطمير.
{يوم ترونها} أي: الزلزلة أو الساعة، أو كل مرضعة أضمرها قبل الذكر تهويلًا للأمر، وترويعًا للنفس {تذهل} بسبب ذلك {كل مرضعة} أي: بالفعل أي: تنسى وتغفل حائرة مدهوشة، والعامل في يوم تذهل.
فإن قيل: لم قال تعالى: {مرضعة}، ولم يقل: مرضع؟
أجيب: بأن المرضعة هي التي في حال الأرضاع ملقمة ثديها للطفل والمرضع التي شأنها أن ترضع، وإن لم تباشر الأرضاع في حال وضعها، فقال: مرضعة ليدل على أنّ ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت ثديها تنزعه من فيه لما يلحقها من الدهشة {عما أرضعت} عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته، وهو الطفل، فما إمّا مصدرية أو موصولة {وتضع كل ذات حمل حملها} أي: تسقطه قبل التمام رعبًا وفزعًا.
تنبيه:
هذا ظاهر على القول الثاني وهو قول علقمة والشعبيّ على أنّ ذلك يكون عند طلوع الشمس من مغربها، وأمّا على القول الأوّل وهو قول الحسن على أنّ ذلك يوم القيامة كيف يكون ذلك؟ فقيل: هو تصوير لهولها، قاله البيضاوي، وقال البقاعي في المرضعة: هي من ماتت مع ابنها رضيعًا، وفي ذات الحمل: من ماتت حاملًا، فإنّ كل أحد يقوم على ما مات عليه، وهذا أولى فإني في حال كتابتي في هذا المحل حضر عندي سيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني نفعنا الله تعالى ببركته، فذكرت له هذين القولين، فانشرح صدره لترجيح هذا الثاني، وذلك يوم تاسوعاء من شهر الله المحرّم سنة ست وخمسين وتسعمائة، وعن الحسن تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها بغير تمام.
ويؤيد أنّ هذه الزلزلة تكون بعد البعث ما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك- زاد في رواية والخير في يديك- فينادى بصوت إنّ الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار؛ قال: يا رب، وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فحينئذٍ تضع الحوامل حملها، ويشيب الوليد وساق بقية الآية»، وهي {وترى الناس سكارى} أي: لما هم فيه من الدهشة والحيرة، ثم بيّن الله تعالى أنّ ذلك ليس بسكر حقيقة بقوله تعالى: {وما هم بسكارى} أي: من الشراب، ولما نفى أن يكونوا سكارى من الشراب أثبت ما أوجب لهم تلك الحالة بقوله: {ولَكِن عذاب الله} ذي العزة والجبروت {شديد} فهو الذي أوجب أن يظن بهم السكر؛ لأنّ هوله أذهب عقولهم وطيّر تمييزهم، تم الحديث عند آخر الآية، «فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم» زاد في رواية «قالوا: يا رسول الله أيّنا ذلك الواحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأجوج وماجوج تسعمائة وتسعة وتسعون، ومنكم واحد، ثم أنتم في الناس كالشعرة السوداء في الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود» وفي رواية «كالرقمة في ذراع الحمار، وإني أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبّرنا، ثم قال: ثلث أهل الجنة، فكبّرنا، ثم قال: شطر أهل الجنة فكبّرنا»، وفي رواية: «إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة».
روى عمران بن حصين رضي الله عنه أن هاتين الآيتين نزلتا في غزوة بني المصطلق ليلًا، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحثوا المطيّ حتى كانوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فلم نرَ أكثر باكيًّا من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب، ولم يضربوا الخيام وقت النزول ولم يطبخوا قدرًا، وكانوا ما بين حزين وباك ومفكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّ يوم ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال ذلك يوم يقول الله لآدم: قم فابعث بعث النار- وذلك نحو حديث أبي سعيد وزاد فيه- ثم قال: «يدخل من أمّتي سبعون ألفًا الجنة بغير حساب» قال عمر: سبعون ألفًا؟ قال: «نعم ومع كل واحد سبعون ألفًا».
وقرأ حمزة والكسائي بفتح السين وسكون الكاف فيهما، والباقون بضم السين وفتح الكاف وبعد الكاف ألف، وأمال الألف بعد الراء أبو عمرو وحمزة والكسائي محضة، وورش بين بين، والباقون بالفتح. ونزل في النضر بن الحرث، وكان كثير الجدل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقول: الملائكة بنات الله، والقران أساطير الأولين، وكان ينكر البعث وإحياء من صار ترابًا.
{ومن الناس} أي: المذبذبين {من} لا يسعى في إعلاء نفسه وتهذيبها، فيكذب فيؤبق بسوء عمله؛ لأنه {يجادل في الله} أي: في قدرته على ذلك اليوم، وفي غير ذلك بعد أن جاءه العلم بها اجتراء على سلطانه العظيم {بغير علم} بل بالباطل الذي هو جهل صرف فيترك اتباع الهداة {ويتبع} بغاية جهده في جداله {كل شيطان} محترق بالسوء مبعد باللعن {مريد} أي: متجرّد للفساد ولا شغل له غيره؛ قال البيضاوي: وأصله العري أي: عن الساتر.